Wednesday, October 29, 2008

الاحتفال بالأبطال من مصر إلى كوسوفو


محمد م. الأرناؤوط

في الايام الاخيرة من عام 2005 قام الرئيس المصري حسني مبارك بافتتاح " قصر محمد علي باشا الكبير" في ضاحية شبرا المتاخمة للقاهرة, وهو ما اعتبر" خطوة هي الاكبر في طريق المصالحة مع الحقبة الاكثر حساسية في التاريخ الحديث للبلاد"، ألا وهي حقبة محمد علي وخلفائه التي استمرت حوالي قرنا ونصف(1805-1952). ولم تقصر الحكومة في الانفاق على ترميم القصر للتعبير عن رغبتها بترميم التاريخ الحديث لمصر حيث وصلت التكاليف أخيرا الى خمسين مليون جنيه.

ويبدو أن التعامل مع هذا القصر من قبل السلطات كان يعكس التعامل مع تاريخ الفترة التي يمثلها. فقد كان هذا القصر النادر في قيمته الفنية والتاريخية قد حول الى وزارة الزراعة لتستخدمه مخزنا للقمح, وأقيمت حوله اضافات كثيرة طمست الكثير من معالمه. وقد جرى هذا في الوقت الذي كانت تطمس فيه الكثير من الحقائق التاريخية في الكتب المدرسية والجامعية حول فترة محمد علي الذي كان يوصف بـ" مؤسس مصر الحديثة"، وهو ما يثير من جديد تعاطي الانظمة مع التاريخ والدافع الى

" اعادة كتابة التاريخ " من فترة الى أخرى.

ولكن ما جرى في الايام الاخيرة لعام 2005 انما هو حلقة في سلسلة من النشاطات التي غطت كل سنة 2005 بمناسبة الذكرى الـ 200 لوصول محمد علي الى الحكم في مصر. فقد بدأت هذه السلسلة في معرض القاهرة للكتاب خلال الايام الاولى لـ 2005 وامتدت عبر محاضرات وندوات واصدارات خاصة طيلة العام 2005. وفي هذا الاطار كانت الحلقة المركزية تتمثل في الندوة الدولية التي أقيمت في القاهرة من قبل المجلس الاعلى للثقافة في تشرين الثاني 2005. وفي الواقع كان الافتتاح المهيب للندوة يحفل بالكثير من الدلالات سواء بالنسبة للماضي والحاضر والمستقبل, وذلك بالمقارنة مع الندوة التي أقيمت في القاهرة خلال 9-11آذار/ مارس 1999 بمناسبة الذكرى الـ150 لوفاة محمد علي.

في 1999 كانت بادرة محمودة للجمعية المصرية للدراسات التاريخية أن تقيم ندوة دولية لأول مرة في مصر عن محمد علي وأن تنشر أوراقها في مجلد ضخم بإشراف الدكتور رؤوف عباس يعيد الاعتبار إلى ما قام به محمد علي لأجل مصر بعد عقود من التهميش والتركيز على السلبيات فقط، التي أصبحت تطول كل السلالة العلوية التي حكمت مصر بعد محمد علي(1848-1952) كي يخدم ذلك النظام الجديد الذي تولى الحكم في مصر.

ولكن الوضع كان مختلفاً في 2005، حيث لم يعد "الاحتفاء" يقتصر على جلسات مغلقة كما في 1999 بل كان بطابع رسمي يتصاعد طيلة السنة المنصرمة والتي حضرها وزير الثقافة الفنان محمود حسني وألقى فيها كلمة حفلت بالدلالات الكثيرة عن محمد علي. ولم يقتصر الحضور في الافتتاح على الأكاديميين والضيوف الرسميين(بمن فيهم سفراء الدول المحيطة بمسقط رأس محمد علي: ألبانيا واليونان ومكدونيا) بل حضر أيضاً المثقفون المصريون. وقد كان لدخول الفنان يحيى الفخراني"هيصة" لا تقل عن"هيصة" دخول وزير الثقافة. وقد تبين لاحقاً أن الفخراني يعد لفيلم عن محمد علي وجاء الندوة ليستشرف هناك من يساعده على إنجاز مادة الفيلم، الذي أسند إخراجه إلى المخرج السوري حاتم علي، وكأنه بهذا كان"يترجم" ما يقال في الندوة عن التكامل المصري السوري في الأوراق المتعلقة بفتح محمد علي بلاد الشام وضمها إلى حكمه خلال 1831-1840.

الاهتمام الكبير الرسمي وغير الرسمي بمحمد علي لا يمكن عزله عما كان يعنيه محمد علي: ضرورة الإصلاح الجذري في وضع راكد. ففي الفترة الأخيرة هناك من يركز على ما قام به محمد علي من إنشاء أول دولة في العام الإسلامي ذات مرجعية مدنية لا دينية، وعلى ما أنجزه من إصلاحات في التعليم والاقتصاد والجيش ليجعل من مصر قوة إقليمية في المنطقة إلى الحد الذي كانت فيه اليابان ترسل عدة وفود للاطلاع على مظاهر وأسباب التقدم في مصر. ومن هنا لا يعد من المستغرب أن نسمع في إحدى الجلسات من يطالب في المنصة من الزملاء المصريين بمحمد علي آخر يخلص مصر من"المماليك الجدد" ويعيد لمصر دورها الرائد في المنطقة.

في حفل الافتتاح كان من اللافت للنظر حضور سفراء الدول المحيطة بمسقط رأس محمد علي كافالا Kavala أو"قوله" كما اشتهرت في المراجع العربية التي كانت ضمن مكدونيا خلال الحكم العثماني للبلقان. فقد كان هناك سفير ألبانيا، باعتبار أن الكل يجمع على ألبانية محمد علي، كما حضر سفير "جمهورية مكدونيا" الذي تصادف أنه ألباني أيضا، وسفير اليونان الذي تضم الآن البلدة التي ولد ونشأ فيها محمد علي(قوله).

ولكن الملفت للنظر أيضاً كان غياب أية مشاركة أكاديمية من ألبانيا على عكس المشاركة القوية من كوسوفو التي غطت جانباً لا بأس به من الخلفية الألبانية لمحمد علي. ويبدو أن الزملاء في ألبانيا، الذين لم يرسلوا أي اعتذار، كانوا منشغلين باحتفالية أخرى ألا وهي الذكري الـ600 لولادة البطل الأسطوري جورج كاستريوتي المشهور باسم إسكندر بك، حيث إن لذلك دلالته الكبيرة بالنسبة للسياق الثقافي والسياسي المتقد في ألبانيا الآن. فمحمد علي لا يعني شيئاً إلى ألبانيا الآن بينما جورج/إسكندر يعني ذلك"البطل" الذي اعتنق الإسلام ثم ارتد عنه ليحارب الدولة العثمانية كي"ينقذ" الغرب والحضارة الغربية من"الخطر الإسلامي". ومن هنا لا يعد من المستغرب أن يطرح آنذاك في الكونغرس الأميركي مشروع قرار(مدعوم من اللوبي الالباني هناك) يشيد بجورج كاستريوتي في الذكرى الـ600 لولادته ويدعو إلى"مكافأة" الالبان على دورهم في"إنقاذ" الحضارة الغربية من"الخطر العثماني" وذلك بتسريع قبولهم في الغرب(الاتحاد الأوروبي والناتو).

ومن هنا فإن الاحتفال بمحمد علي استمر بهذا الزخم في كوسوفو وليس في ألبانيا. ففي الأسبوع اللاحق لندوة القاهرة نظمت أكاديمية العلوم والفنون في كوسوفو التي تعد أعلى جهة علمية وثقافية احتفالية عن محمد علي كانت لها تغطية كبيرة في وسائل الإعلام، كما أن معهد التاريخ وكلية الدراسات الإسلامية في بريشتينا عقدا ندوة علمية في 5 كانون الأول/ديسمبر بمشاركة باحثين من مصر والاردن، كما وأعد في كوسوفو أول فيلم وثائقي عن محمد علي كي يعرض في عدة محطات تلفزيونية.

ان هذا الاحتفاء بمحمد علي في كوسوفو، وليس في ألبانيا، ليس بمستغرب. فعندما كانت ألبانيا في عزلة عن العالم وعن تاريخها أيضاً، حيث إن"تاريخ ألبانيا" الرسمي كان يذكر محمد علي بسطرين دون أن يشير إلى ألبانيته، كانت كوسوفو هي التي تحتضن الاهتمام الألباني بمحمد علي وتنشر أولى الدراسات عنه في النصف الثاني للقرن العشرين. أما الآن فالاحتفاء بمحمد علي في كوسوفو له دلالته الكبيرة، حيث إن كوسوفو تعيش منذ 1999 حالة الدولة الموازية لألبانيا والقادرة على القيام بما تقصر عنه أحياناً"الدولة الأم" التي لم تعد معنية بالشرق في السنوات الاخيرة لاعتبارات لا مجال للخوض فيها.

•أستاذ التاريخ الحديث في جامعة آل البيت

الغد الاردنية : الأربعاء 29 تشرين أول 2008م
01 ذو القعدة 1429 هـ

http://www.alghad.jo/?section=12&MaxDate=2006-02-18

No comments:

Counter